النظام الديموقراطي لا يعتمد على ايديولوجيا معينة بل مفاهيم عامة وهي الحرية والمساواة والعدالة والكرامة الانسانية وتعددية الآراء والتداول السلمي على السلطة وعلى فكرة سيادة الشعب وانه منبع السيادة وليس الدين

المفكر والباحث والمؤرخ الدكتور هشام جعيط أحد أبرز علماء عصره ورموز الحداثة والتنوير في العالم العربي قال متحدثا عن الإسلام السياسي في المشهد التونسي بعد الثورة

 أين يكمن الخطأ في الدفع لتغليب خيار النظام الاسلامي في تونس بعد الثورة؟

-أولا مثل هذا المشروع سيدخل انقساما على الانقسام الموجود بل تطاحنا كبيرا قد يؤدي الى ما لا تحمد عقباه. فعندما يطالب الغنوشي بالغاء أو بالابتعاد على الاقل عن لجان حماية الثورة وعندما يطالب تيار النهضة بالابتعاد عن السلفيين فهذا في الواقع في مصلحة الحركة ومصلحة البلاد عامة لانه يجب الاقرار بأنه من المستحيل بل ليس جيدا أن تحصل ثورة ثانية داخل الثورة أي ثورة في سبيل تقرير الاسلام كمحرك للدولة فالفترة التي نعيشها لا تسمح بذلك و ليست متماشية مع هذه الفترة.

لسنا في 1979 عندما قامت الثورة الايرانية وبلدنا ليس ايران وهو بلد كبير أراد أن يضطلع بثورة موجهة لكل العالم الاسلامي تماما كما قامت ثورة روسيا في 1917 أي ثورة تاريخية، وادرك ان لا يمكن لثورة اسلامية أن تأتي لتركب في ثورة ديموقراطية.

علينا أن نستوعب ان ثورة تونس وعموما الربيع العربي كانت ثورة  ديموقراطية ضد الدكتاتورية وضد الآلام التي اخترقت أبناء هذا البلد في سبيل الحرية والكرامة وأن هذه الثورة في تونس أو مصر او ليبيا لم يقم بها الاسلاميون، بل ان الاسلاميين دخلوا في العامل السياسي بعد الثورة مثلهم في ذلك مثل كل الاحزاب والتيارات الاخرى... صحيح انه كان لهم رصيد قليل من زمن بن علي وما قبله منذ السبعينات، وهم اضطهدوا من طرف النظم السابقة ولكن رايتهم كانت راية الاسلام وهذا التيار كما أسلفت كان موجودا منذ السبعينات .

ولمزيد التوضيح لا بد من الاشارة الى أن هناك تعارضا بين فكرة ترسيخ دولة اسلامية وبين الاعتماد على لجان حماية الثورة. مفهوم لجان حماية الثورة يفترض أن يكون حول حماية الحرية والكرامة والتعددية ولا يعني بالتالي حماية فلسفة ما ايديلوجية، ومن هنا أذكر أن الثورة لم تكن ايديولوجية ولم تكن في سبيل ارساء نظام يستوحي ذاته من ايديولوجيا معينة كما الحال مع روسيا الشيوعية وإيران الاسلام... حماية الثورة تعني حماية التعددية والحرية ولايمكن الاعتماد على مفهوم الثورة من جهة وما تتضمنه من قيم عامة، وفي ذات الوقت على ايديولوجيا معينة.

المفروض ان النظام الديموقراطي لا يعتمد على ايديولوجيا معينة بل مفاهيم عامة وهي الحرية والمساواة والعدالة والكرامة الانسانية وتعددية الآراء والتداول السلمي على السلطة وعلى فكرة سيادة الشعب وانه منبع السيادة وليس الدين أو النظرية الماركسية أو شيء من هذا القبيل، وبالتالي أقول حسنا تفعل "النهضة" اذا التزمت بقيام الثورة دون ايديولوجيات لأن لها حساسية خاصة وهي الحساسية الاسلامية ولكل حزب آراء وتصورات حول المجتمع وهذا أمر طبيعي في الديموقراطية، فالديموقراطية تعني أولا وثانيا أن لكل حزب حساسيته.

 ولكن ماذا عن مستقبل الاسلام السياسي في دول الربيع العربي بعد صعود حكومات اسلامية على أنقاض الانظمة الاستبدادية التي سقطت؟

- الواقع أن العالم العربي - والاسلامي - اليوم يطرح ومنذ جيل تقريبا بقوة مسألة الاسلام، وهذا من أفغانستان الى باكستان والمغرب والسودان وغيرها. المشكلة إذن مطروحة ومن الطبيعي ألا تنفرد تونس بهذا التيار وحركة "النهضة" وجدت منذ السبعينات، يعني أننا داخل حركة التاريخ ولسنا بمنأى عنه. والاسلاموية حركة عارمة ليس علينا الدخول في أسبابها ومسبباتها لكنها واقع كتيار فلسفي سياسي ديني في المجتمعات العربية والاسلامية، ومن احدى صور عدم التسامح الموجود بقوة عند العلمانيين في تونس وغيرها أيضا ألا نتفهم وجود مثل هذه التيارات.

صحيح أن الثورة عندنا وكذلك في مصر وسوريا لم تقم على هذه الفكرة بل قامت على نبذ الدكتاتورية وعلى فكرة ارساء ديموقراطية حقيقية يكون فيها الانسان مرتاح لمصيره .

 هل يمكن اعتبار أن حركة "النهضة" حركة ديموقراطية؟

- لا أقول أن حركة "النهضة"، وهذا ما يقوله الكثيرون خطأ، تنبذ الديموقراطية، والدليل على ذلك أن حركة "النهضة" تعاملت مع أحزاب أخرى في تحالف قائم ولم تحتكر السلطة تماما وأن مجلس النواب والمجتمع يتعايش وفيه تيارات متعددة مرجعها فكرة الثورة والحرية أي حرية الاعلام وحرية تكوين الاحزاب.

ما نعيشه اليوم نقاشات تكاثرت الى درجة المبالغة وتكاثرها ليس دوما بالجيد بل فيه الكثير من اللغو السياسي. ومن هنا أقول انه لا يمكن بناء مستقبل تونس على فكرة واحدة خصوصا وأن هذه الفكرة ليست بالجديدة وأن القائمين بها أناس تواجدوا منذ عهد بورقيبة بينما الثورة الفعلية، وألح على فعلية الثورة لأنها قامت في الواقع وتدخل بالتالي في زمرة الجديد وضمن تطور المجتمع من مجتمع جاهل سابقا الى مجتمع مثقف ومن مجتمع مرتكز على الرجولة الى مجتمع تلعب فيه المرأة دورها ومن مجتمع تفتح قسرا منذ خمسين عاما على العالم الخارجي ومن مجتمع منكمش الى مجتمع دخلت فيه العولمة ومن مجتمع غير مصنع الى مجتمع اخترقه التصنيع سواء الداخلي او الخارجي ومن مجتمع فقير جدا الى مجتمع في حالة نمو واضحة ومن مجتمع موحد في الفاقة والحرمان الى مجتمع تراتبي فيه الاثرياء والفقراء والطبقة المتوسطة...

اذن مجتمع معقد وكل هذا عبرت عنه الثورة في تونس ومصر بصفة تلقائية وضمنية. كل هذه القوى تداخلت لإقامة حركة جماعية قوية لم تقم بها تونس في الماضي أبدا وهذا علينا تفهمه مليا وهو في الواقع في باطن الضمائر ويجب الافصاح عنه وتبيانه بالكلمة.

 لو نعود الى ما تطرقت اليه في البداية حول الشرعية وحول الانتقادات للحكومة، فكيف يمكن اليوم لتونسي عايش كل أنواع القيود على حرية الرأي والتعبير الى النشاط السياسي القبول بسلطة بلا خارطة طريقة باسم الشرعية الانتخابية، وكيف يمكن أيضا لمن رفع راية الحرية عنوانا لثورته عدم انتقاد الحكومة بدعوى عدم ارباكها؟

إنه من المهم ترتيب المسؤوليات لأداة الحكم في المستقبل، ولا شك أن في ذلك التأخير والاضطراب والنقاشات اللامتناهية قسط كبير من عدم الشعور بالمسؤولية إزاء الشعب ومصالحه وكل يجذب اللحاف لافكاره وهذا كله مرتبط بسوء فهم الديموقراطية لان الديموقراطية ليست المعارضة الدائمة للافكار وإنما تستقيم أيضا على تفاهم وعلى نظام والديموقراطية ليست الفوضى واللامسؤولية .

 ألا يمكن أن تكون المعركة أساسا بسبب المخاوف حول مستقبل الحريات؟

- هناك أمانة أنيطت بعهدة ممثلي الشعب من النواب والحكام ولابد من قسط من حسن النية لأننا في لحظة تاريخية وهذا أمر جلل، بينما في واقع الامور وفي تقديري الشخصي على الاقل أن الدستور سهل تصوره. هناك مبادئ عامة تكون كمرجعية للدستور مثل لقرار الحريات الاساسية وهذا لب الديموقراطية والاسس التي تستقيم عليها أي ديموقراطية والتي أيضا من أجلها قامت الثورة، ومن ذلك أن القول أن تونس بلد اسلامي فهذا واضح وتونس بلد اسلامي والاغلبية في تونس مسلمون واللغة الرسمية العربية وهذا أمر قائم منذ الاستقلال وحرية المراة تدخل ضمن الحريات العامة للانسان التونسي ومساواة المرأة بالرجل تدخل في المبدأ الاساسي لكل ديموقراطية وهو المساواة بين البشر عامة ويجب بالتالي الاعلان على أن تونس تضمن وتعترف بالمبادئ العالمية للامم المتحدة لحقوق الانسان... نحن ننادي بهذا منذ عهد بن علي وحتى بورقيبة. هنا يجب أن يحصل اجماع حول هذه الافكار، والسؤال الذي أطرحه هل تكون الدولة اسلامية أم مدنية ؟ ومن هنا أقول هي اسلامية ومدنية في نفس الوقت، بمعنى هي اسلامية تحمي دين الشعب والدين الذي فرضه التاريخ منذ خمسة عشر قرنا من وجهة مادية اذ ليس لنا كنيسة مثل المسيحيين، فالجوامع وكل ما يهم الشأن الديني تتولى المجموعة الوطنية عن طريق الدولة توفيره من خلال الضرائب خصوصا وأن الاوقاف توقفت منذ وقت طويل، كما أن الدولة الاسلامية لا يعني تطبيق الشريعة بحذافرها، فهناك قسط وافر فيما يتعلق بالميراث في الشريعة قائم الذات ولم يتغير.

أما فيما يخص الاحكام الجزائية، وهي نقاط طفيفة، فلا يمكن تطبيقها وهو من الديماغوجيا في نسبة كبيرة منه ويعبر أيضا عن الجهل والغوغائية.

اذن يمكن القول أن المتشددين في تطبيق العقوبات الجسدية يلهثون وراء تفاصيل جزئية تجاوزتها الانسانية منذ قرون حتى داخل العالم الاسلامي، ولكن الغريب والخطير أن هؤلاء لا يتكلمون عن القيم الانسانية وهي أهم بكثير...

Source: http://www.assabah.com.tn/cont.php?ID_art=83111

Commentaires